يحسب الإسلاميون، إذ يلهجون بشعار «أسلمة المجتمع» ويسعون في إنجازه حثيثا، أنهم يأتون أمرا غير مسبوق ويقبلون على ما لم يقدم عليه من قبلهم أحد، ذاهلين عن أنه إذا كان من تمايز يتسمون به في ذلك الصدد أو يزعمونه، فهو ينحصر في قولهم الإيديولوجي لا يتعداه، توهّماً وإيهاماً (شأن كل قول إيديولوجي)، أما الفعل الذي ينشدون، أي أسلمة المجتمع بفرض ضرب من مركزية فقهية، فقد
بذلت محاولات كثيرة قبلهم من أجل بلوغه.. غير أن الإقرار بذلك لا يرتب استهانةً بقولهم الإيديولوجي ذاك، ما دام فاعلا مدمرا على النحو الذي نعلم.
يتعين، من أجل المضيّ في الخوض في هذا الموضوع، مساءلة تعبير «الأسلمة» ذاك، لأنه ينطوي على لبس كبير أو على مغالطة. إذ لا يجري الحديث عن «إعادة أسلمة» بل عن «أسلمة»، ما يمكن تأويله على أنه يعني بدءاً بِكرا بإطلاق، أي ما قد يفيد، بعبارة أخرى، بأن المجتمعات المعنية لم تكن قط مسلمة بالرغم مما هو معلوم من تاريخها المديد تحت هذا المُسمّى وهذه الصفة، وأن فجوة أو فراغا قد انفتحا، بين حقبة النبوّة (وامتدادها المباشر: دولة المدينة)، وبين حقبة «الصحوة» هذه. فجوة وفراغ امتلآ تاريخا، حروبا وملكا عضوضا ومللا ونحلا وفلسفات وجدلا كلاميا وشعرا ماجنا...الخ، فاتسعا لكل شيء إلا لشرع الله، ذلك الذي انتدب رجال «الصحوة» في هذا الزمن، خصوصا أكثرهم غلوّا ممن استحوذوا على زمام المبادرة في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، أنفسهم لإحلاله لأول مرة بين البشر . كأنما «الصحوة» تلك، أقله في بعض أوجهها، ترى نفسها استئنافا لرسالةٍ، تدخلا إلهيا مباشرا في حياة البشر، شذ عنها الناس ومرقوا، فـ»عُلّقت»، حسب تصوّر الضالعين فيها، طيلة أربعة عشر قرنا، وآن أوان «تحيينها»، إعادةَ ارتباط بلحظة النبوّة، يلغي تاريخا مدنّسا ويجبّه، غابت عنه النبوة تلك وأزفت لحظة استحضارها من جديد. في الاعتقاد هذا ادعاء مفرط، قد يبلغ مبلغ التجديف، غير أنه قد يكون التوصيف الأدق لـ»الصحوة» أو لأكثر مظاهرها غلوّا، ترى في نفسها استئنافا، متعاليا على البشر وتاريخهم، للحظة النبوة، وأداة إنفاذها، ما يضع أفرادها في نسق من «الاصطفاء» خارج سوية أولئك البشر.
قد لا يكون هذا التأويل مشطّا، إذ ليس أقل حفولا بالتاريخ من رجال (ونساء) تلك «الصحوة» الذين يهجسون بالهوية. ذلك أن الهوية عندهم ليست، كما هي عند سواهم، معطى دنيويا أرضيا، طبعا أو وضعا، صاغتها ملابسات التاريخ أو استُخلصت منها، بل هي لا تتحدد إلا بـ»الإيمان الحق»، أي بعامل غير تاريخي. وذلك ما قد يكون سوء الفهم الأول، في مقاربة «الصحوة» وفي التعاطي معها، إذ يأخذ عليها منتقدوها والمعترضون عليها سعيها إلى «إعادة عقارب الساعة إلى الوراء»، فيحاكمونها بما لا يعنيها وبما لا تعبأ به، بنظرة إلى التاريخ جاءت بها الوضعية الحديثة، تقرّ بوجوده أولا وتراه تقدما مضطردا ثانيا. فــ«الصحوة» قد لا تكون حركة «ماضوية»، بالمعنى المألوف أو المعتاد، على ما درج القول وشاع، فهي لا تطلب مماهاة الواقع الحاضر بـ»عصر ذهبي» ما، مندرج في التاريخ، يراد بعثه من جديد، على ما كان مثلا شأن موسوليني الذي حلم بإعادة إنشاء الإمبراطورية الرومانية، أو شأن قوميينا الذين تعلقوا بأمجادٍ إمبراطورية تليدة، أموية وعبّاسية. يكمن الفارق بين المنحيين والمسلكين في العلاقة بالتاريخ، فهي عند هؤلاء الأخيرين (القوميين)، علاقة تبنّ وإن انتقائي، تصطفي من التاريخ أطواره المشرقة، وتزعم، إرادةً واعتباطا، الانتساب إليها دون سواها، وهي عند أهل «الصحوة»، علاقة نفي مبرم وإلغاء تام. والفارق هذا بالغ الأهمية لا يستهان به.
غير أن الأمر يتطلب مزيدا من توضيح، يرفع ذلك اللبس الذي كثيرا ما كان مصدر إطلاق صفة «الماضوية» علىالظاهرة المسمّاة بـ»الصحوة»، لأن إطلاق تلك الصفة، تكرارا، يفترض، بمعنى ما، الأخذ بتاريخانية، وإن نكوصية، تنبذها تلك الظاهرة نبذا مطلقا. صحيح أن هذه الأخيرة تعود أو تعلن العودة إلى لحظة النبوة، على ما سبقت الإشارة، وهذه جدت في زمن بعينه، في ماض محدد معلوم، ذلك ما لا جدال فيه «موضوعيا». ولكن زمنية تلك اللحظة أمر نافل عند أهل «الصحوة»، لا يُحسب حسابه في بعده ذاك، أقله لأنه ليس من مشمولات البشر. أما لماذا اختار الله إبلاغ تلك الرسالة واصطفى ذلك الرسول، في ذلك العصر وفي ذلك المكان، فأمر يتعذر تفسيره بالتاريخ. فاللحظة تلك، كشأن إلهي خالص، تنتسب عند أهل «الصحوة» إلى الأزل، أو إلى بعد مفارق، غير زمني، إلى إرادة وإلى حكمة إلهيين، لا سبيل إلى النفاذ إليهما، ناهيك عن أن يُعزيَا إلى ملابسات تاريخية بعينها أو أن يتحددا بها. أي أن اللحظة تلك لا تنضوي في التاريخ إلا لكي تُبطله، لا لكي تؤسسه على ما يفهم أصحاب التفكير الوضعي أو الزمني بل لكي تلغيه.
بهذا المعنى، تكون «الصحوة» حركة طوباوية، قد تكون ارتكاسية في ظاهرها، ولكنها طوباوية مع ذلك، تلتقي مع الحركات من طينتها في أنها «اسكاتولوجية»، تستعجل القيامة (إسكاتون تعني في اليونانية «نهاية الأزمنة»)، واستحضار لحظة النبوة في هذا الصدد ليس عند تلك الحركة عودا على بدء تاريخي، اقتداء بسابقة، بل أن ما يهمها من تلك اللحظة، أنها قبسٌ من أزل، أي منتهى مغامرة البشر على وجه هذه الأرض. وهي لذلك، تستعجل بدورها وأسوة بالحركات المماثلة، «نهاية التاريخ». الفارق أن الطوباويات الزمنية، شأن الشيوعية، تضع تلك «النهاية» في أفق ما يقع في المستقبل، في حين أن «الصحوة»، تنبذ المستقبل أصلا، ربما لأنه ليس بريئا تمام البراءة من فكرة التاريخ، يتبدى تكليلا له وتتويجا ناجما عن مساره، لتعيد تلك النهاية إلى أزل أطل على العالم في «زمن» ما (ليس زمنيا إن جازت العبارة)، إشارةً وعلامة على الطريق.
لعل ذلك ما يفسر عزوف أهل «الصحوة» عن التاريخ، ذلك الإسلامي قبل سواه، وعن السياسة. فالتاريخ، على عكس ما قد ما يُفترض في أناس يهجسون بالهوية، ينحصر عندهم في السيرة وفي مأثور السلف الصالح، أقوالا وأفعالا، وفي كتابات نفر من الفقهاء محدود يقرّون له بالمرجعية، في حين أنه يتنكر تنكرا تاما أو يكاد، لكل ما عدا ذلك من أوجه حضارة درج المسلمون على الفخر بإنجازاتها في أوج ازدهارها، فكل ذلك إما مرذول في نظر أهل الصحوة، شأن التصوف والفلسفة وعلم الكلام والشعر والموسيقى وما إليها، أو يُسام تجاهلا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى وقائع تاريخ ولغ في دنس الدنيا، طموحا إمبراطوريا ونزاعا على السلطة وتشتتا مذهبيا... أي، بكلمة واحدة، بشريةً.
وأما السياسة، فهي أيضا دنس لا يُعبأ به، يحل العنف محلها إكسيرا غايته إنهاء العالم، أو أنه غاية في ذاته، فعلا يستنفد غرضه في مجرد حصوله. المهم أن تُضرب أميركا في الحادي عشر من سبتمبر، وليس مهما ما الذي يمكنه أن ينجرّ عن ذلك. المهم أن يُتسهدف الأميركان في العراق، أو «الروافض» أو المسيحيون أو سواهم، دون اكتراث بمصير البلد ودون ترتيب لسلّم الأولويات والخصوم، على ما هو معلوم متداول مبتذل بيننا، كثيرا ما صير إلى الخوض فيه تشخيصات وتوصيفا بما يغني عن الإسهاب. فأهل الصحوة لا يتدخلون في العالم من أجل الفعل فيه، لبلوغ غاية يتسع لها التاريخ، تحريرا أو نفوذا أو ما شابه، بل من أجل إبطال العالم وتدميره. من أجل التعجيل بنهايته.
هل ينطوي الكلام أعلاه على نصيب من صحة يسير أو كبير؟ تلك فرضية تتطلب مزيدا من اختبار، تأملا ونقاشا، سعيا إلى سبر «المنطق» الكامن والخفي لمثل تلك الظواهر، بدل الاكتفاء بإدانتها (الواجبة في ذاتها طبعا) أو الاكتفاء في تفسيرها بوصفها بالجنون أو بالهذيان، فيحل الاستنكار محل التفكير، علما بأنه من أمارات تفوق العقل، إن لم يكن مجرد تعويذة إيديولوجية، سعيه إلى إدراك وتفكيك حتى ما يبدو له لاعقلانيا...